صدر للدكتور محمد المتقن مؤلف جديد بعنوان ” الرواية العربية الجديدة الخرائط الأسلوبية و أقنعة العجائبي “
وجاء في مقدمة الكتاب
خروجا عن المألوف، وبعيدا عن السائد في البيئة الأدبية، عمل عدد من الروائيين العرب على تجديد الفن الروائي، من خلال ابتكار طرائق وأشكال تنسجم كل الانسجام مع طبيعة الرواية كفن؛ بل تتماهى مع جوهرها المتميز بتغيره باستمرار. فجاءت أعمالهم مبتكرة وأصيلة في آن. وهذا ما لفت الأنظار إلى هؤلاء المبدعين، خاصة بعد هدوء السجال النقدي حول الرواية، وتبيئتها في تربة الأدب العربي. وتوالي انعقاد المؤتمرات والندوات حول السرد وكنهه، والسرد الروائي وما يتعلق به. وبروز روائيين أخلصوا للفن الروائي دون سواه من الفنون السردية الأخرى، حتى أضحى من النقص والجهل، دراسة الرواية العربية في سيرورتها وتحولاتها، دون الوقوف عند أسماء أعلام غدت أهرامات لا يمكن تصور الرواية العربية بدونها.
قبل عثور جائزة نوبل على نجيب محفوظ، لكي يدفع عن منظميها شبهة التحيز في منح الجائزة للأدباء الغربيين دون سواهم؛ قبل هذا العثور على نجيب محفوظ، كانت العلامات التجديدية الأولى في الرواية العربية قد أخذت في الظهور. ثم ما لبثت أن برزت بشكل كبير، وترسخت مع نقاد ودارسين ومنظرين ذوي اطلاع كبير على أصول الفن الروائي في تربته الغربية. واتساع شريحة المتلقين النهمين الذين تمرسوا بفن الرواية في الأدبين العربي والغربي قراءة وتمثلا ونقدا، من الذين لم تعد الخطاطة السردية لما سمي بالرواية الواقعية لأمثال نجيب محفوظ تستهويهم… وهنا، وانسجاما مع كون الرواية فنا، لا يخضع لأي قانون كما يقول باختين، ظهرت روايات خالفت السائد في الرواية الواقعية، التي أصبح يطلق عليها اصطلاح الرواية التقليدية بفعل خطاطتها السردية المتشابهة. وشرعت هذه الروايات في التجديد الذاتي، الذي ينسجم مع كون الرواية ـ كما يقول فورستر ـ “كتلة هائلة عديمة الشكل إلى حد بعيد” . ولأن الرواية ترفض تحكم الأفكار المسبقة بأساليب التعبير الفنية وسيطرتها عليها كما يقول صاحب كتاب الرواية العربية . ولكونها كذلك، بهرت الأبصار وجرت إليها مزيدا من القراء، خاصة وأنها لم تقرن تجديدها من حيث الشكل بتفجير المعنى، حيث لا يقبض المتلقي على أي شيء في رحلة القراءة المضنية، سوى حصاد الهشيم وقبض الريح.
اقتباس الرواية العربية النفس التجديدي من أجناس أدبية كالشعر، وفنون كفن الرحلة مثلا، فتح باب التجريب الأسلوبي. ووسم الرواية العربية الجديدة بميسم خاص، بدت دقائقه على أساريرها، من السرد المنشغل بذاته، إلى البنية الروائية الجديدة، إلى طرائق السرد…وهذا ما شكل صوى متميزة تحول بين المتلقي وبين الهلاك في صحراء التيه بين الكثبان المتشابهة…
لقد كانت صوى التداخل بين الرواية والشعر، أو بين الرواية والسيرة الذاتية، أو بين الرواية والرحلة… علامات على طريق جديدة غير مسلوكة… وفي الآن نفسه مثيرة للدهشة والغرابة، آسرة للسالكين من خلال ما اجترحه الروائيون الجدد من طرائق وأساليب في التعبير، لا تكفي كلمة الدهشة في توفيتها حقها.
لم يكن الإخوة الذين شاركوني كتاب “الرواية المغربية الجديدة”، بعيدين عن الصواب، عندما تلمست بمعيتهم علامات التجديد في أعمال الروائي فريد الأنصاري رحمه الله. ومنذئذ، وأنا مأسور إلى تمييز الجدة، في أعمال روائيين عرب كثر. وهي جدة بانية، بعيدة كل البعد عن الادعاء الفارغ.
والحقيقة أن التجديد عند هذه الفئة من الروائيين حقيقة، لا ينال منها ذلك الطوفان من الأعمال الروائية التي تجتر ولا تجدد، وتكرر ولا تبدع. كما لا يحول هذا الكم من الروايات التي هذه صفتها بينها وبين إثبات الوجود الخاص.
إن العالم الذي سعى الروائيون الجدد إلى تصويره في إبداعاتهم، عالم مليء بالمعاني. فهو ليس خواء، ولا أرضا خرابا. وشخصياته ليست من طينة الرجال الجوف. إنه عالم يموج بالصراع بين الخير والشر، فيه من الخيبات والانكسارات والآلام، بقدر ما فيه من التطلعات والآمال والاستبشار بالنصر، والتطلع إلى الغد الوضيء، الذي تظلله سحائب التفاؤل بانتصار الإنسان لإنسانيته، واستعلائه على ثقلة الأرض والطين واستخذاء العبيد وذلهم.
لم يتساهل هؤلاء المجددون ـ وهم يشعرون بأهمية ما يقومون به ـ في طرق الأداء ووسائله، ولم يهونوا من شأن الأداة التعبيرية… ومن هنا كانت الحاجة ماسة، إلى قارئ قادر على تمييز عناصر التعبير الجديدة، ودور الأداة الموظفة، وتأويل هذه الأعمال الروائية.
تحتم الرواية العربية الجديدة ـ في هذا السياق ـ وجود قارئ متمرس بفن الرواية، وهي تعبر الحدود الجغرافية والزمنية، وتستعلي على الثقافات، قارئ قادر على استيعاب مصاحبة فن الرواية للتاريخ وتجاوزه في آن معا. قارئ ينظر إلى الواقع باعتباره عالما تسهم في إنتاجه أكثر من جهة، وأكثر من وجهة نظر، مما يحتم التعامل معه فنيا بدرجات كبيرة من الحذر والعمق اللازمين، بعيدا عن التبسيط والاستسهال اللذين سادا في كثير من روايات البدايات.
تمثل روايات المتن المقارب في هذه الدراسة، مشارب شتى، وأجيالا روائية متنوعة؛ يجمع بينها عنصر التجديد، الذي هو العلامة البارزة الفارقة بين هؤلاء الروائيين وغيرهم.
تغطي روايات المتن في هذا الكتاب كذلك، أكثر من نصف قرن من الإبداع، جرت مياه كثيرة تحت جسره. روائيون من مشارب فكرية متنوعة وجغرافيات مشرقية وخليجية ومغربية.
ولم يكن دليلي إلى هذا المتن السردي المتنوع، سوى عنصر التجديد الذي وجدته ينادي علي، في كل مرة أقرأه فيها أو أعود إلى قراءته.
وثمة شيء لا بد من التنصيص عليه، هو ريادة بعض هذه الأعمال في مجال التجديد، وإلهامها للمبدعين في المجالات المختلفة. فتغريب الروائي نجيب الكيلاني لشخصية الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستدعائه لهذه الشخصية من التاريخ الإسلامي، لا شك أنه ألهم الكثيرين، وفتح الباب أمام مبدعين عديدين بمقاربة خارج النموذج السائد، وهذا هو التجديد وإلا فلا تجديد.
تنوع المتن المدروس جغرافيا بين مصر والخليج العربي والمغرب. وتنوع أجيالا كذلك، فمن جيل نجيب محفوظ ونجيب الكيلاني، إلى جيل عبد الله العروي، إلى جيل فريد الأنصاري وسلام أحمد ادريسو وحسن أوريد. إن تنوع هذا المتن توجهات ومدارس وجغرافيات، يعطينا فكرة عامة عن كون التجديد الذي رصدناه في روايات المتن، تجديدا امتدت روحه إلى جميع المبدعين على اختلافهم، من رجل السياسة إلى رجل الفكر والدعوة إلى الأكاديمي. وقل الشيء نفسه عن التيمات التي عرضتها روايات المتن، فهي كذلك تكون عالما خاصا عند كل روائي من الروائيين الذين وقفت عندهم بتمعن ومتعة غامرة.
وسيجد القارئ الحصيف الألمعي، بين ثنايا هذا الكتاب، وقفات تأملية عند مفهوم التجديد والتجريب في الرواية العربية، والعوامل التي كانت وراء هذا التجديد، ونجاته من الغرق في بحر التجريب المتلاطم الأمواج.
لم يفتني التنصيص على تجلية العناصر التجديدية في المتن المدروس، وأنا أبحث عن الصوى المميزة لهذا التجديد ودلالاتها. وهنا كان لزاما، الوقوف بأناة عند نماذج؛ هي بمثابة مرايا تعكس هذا التجديد وتجليه. لينتهي القارئ الكريم إلى ظلال وارفة، يستريح في أفيائها من عناء هذا السفر القاصد، ليخلص مفهوم الرواية العربية الجديدة مما اختلط به مما شابه أثناء مسيرة الإبداع.
هل يمكن أن أجزم بادعاء الوصول إلى قول فصل، فيما تعرضت له من ظواهر ومفاهيم تجديدية في الرواية العربية الجديدة؟ ذلك ليس لي، ولست أميل إلى ادعائه. لأن مسيرة التجديد ما زالت مستمرة، وتشترط مواكبة مصاحبة لا تفتر ولا تضعف لما تقذف به المطبعات من روايات. وتنتظر تطور وعي المبدع العربي بما يتطلبه التجديد من تغيير يمس وعي المجتمع العربي بذاته وتطلعاته واتساع شريحة القراء، وإيجاد المؤسسات الثقافية الراعية لوعي المجتمع وترقيته.
حقوق الطبع محفوظة لجريدة القرب 2024-2025 ©