نفذت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية حملة أمنية شاملة في مخيم جنين، الذي يُعتبر من أبرز رموز ومعاقل المقاومة الفلسطينية، وأصبح منذ الانتفاضة الثانية رمزاً للصمود في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. بينما تبرر السلطة هذه الحملة، التي تضمنت حصاراً مشدداً للمخيم وقطعاً للتيار الكهربائي، بأنها “ضرورة لضبط الأمن وملاحقة الخارجين عن القانون”، يرى الفلسطينيون وسكان المخيم أنها خطوة ناتجة عن ضغوط إسرائيلية وأمريكية تهدف إلى تقويض بؤر المقاومة المتزايدة في الضفة الغربية منذ سنوات، مما يثير تساؤلات حول أهداف الحملة وتأثيراتها على الوضع الفلسطيني.
Thank you for reading this post, don't forget to subscribe!السلطة تكمل دور الاحتلال في جنين تحت إشراف الجنرال الأمريكي مايكل فينزل.
انطلقت الحملة الأمنية للسلطة الفلسطينية في 5 دجنبر 2024، تحت تنسيق وإشراف كامل من الجنرال الأمريكي مايكل فينزل، الذي يشغل منصب منسق الأمن الأمريكي في الأراضي الفلسطينية. ووفقًا لمصادر سياسية وأمنية، فإن هذه الحملة تأتي كاستمرار لتوصيات اجتماع العقبة الذي عُقد في فبراير 2023، والذي شارك فيه ممثلون عن “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة والأردن، بهدف احتواء تصاعد عمليات المقاومة في الضفة الغربية.
مايكل فنزل.. تعرّف على عرّاب خطة وأد المقاومة في الضفة
وذكر موقع “أكسيوس” الأمريكي أن فينزل قام بمراجعة خطط العملية العسكرية في مخيم جنين مع قادة أجهزة أمن السلطة، وتم تحديد المعدات والذخائر اللازمة لمواجهة الشبان المقاومين في المخيم. بينما أفادت صحيفة “هآرتس” بأن الجيش الإسرائيلي يدرس إمكانية تقديم دعم عسكري إضافي للسلطة لتعزيز عمليتها ضد “الخارجين عن القانون” في جنين وشمال الضفة.
وفقًا لموقع “أكسيوس”، يعترف قادة السلطة بأن “العملية في جنين تمثل لحظة حاسمة بالنسبة للسلطة الفلسطينية ومستقبلها”. وقد شملت الحملة نشر قوات أمنية كبيرة داخل المخيم، واستخدام تقنيات متطورة لتعقب “الخارجين عن القانون”، كما وصفتهم بيانات السلطة، التي تواصل حصار المخيم لليوم الـ30 على التوالي تحت شعار “حماية وطن”.
على الرغم من حديث السلطة عن أهدافها “الأمنية”، إلا أن الحملة أسفرت عن استشهاد 8 فلسطينيين برصاص أجهزة السلطة، بينهم صحفية و3 أطفال، بينما قُتل 6 عناصر من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة حتى مساء الجمعة 3 يناير 2024، وأصيب العديد من المدنيين بجروح.
بدأت الأحداث عندما قتلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية خلال الاشتباكات يزيد جعايصة، القيادي في كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، بالإضافة إلى شاب وطفل من أهالي المخيم، وسقطت إصابات من الجانبين في مطلع دجبر 2024. وقد قوبلت الحملة برفض شعبي واستنكار من قبل الفلسطينيين وفصائل المقاومة وسكان المخيم ومنظمات حقوقية، وأثارت تساؤلات حول حقيقة وأهداف ودوافع هذه الحملة “التي تقدم خدمة مجانية للاحتلال” من خلال مواجهة المقاومين والكشف عن العبوات التي أُعدت مسبقًا لمواجهة اقتحامات قوات الاحتلال.
ما الذي يكمن خلف الحملة؟ الأسباب الظاهرة والباطنة.
ذكرت صحيفة “هآرتس” أن التوصيات الأمريكية بشأن الحملة أكدت على أهمية احتواء نشاط المقاومة المسلحة في جنين، باعتبارها تشكل تهديداً لـ”إسرائيل”. ويتهم الفلسطينيون السلطة بأنها أصبحت أداة لتحقيق أهداف أمنية إسرائيلية على حساب مصالح الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال.
يؤكد سكان المخيم، الذين كانوا لفترة طويلة قاعدة شعبية لدعم قوى المقاومة، أن حملة السلطة الفلسطينية تخدم الرغبات الإسرائيلية في تهدئة الأوضاع في الضفة الغربية وإغلاق مراكز المقاومة ضد الاحتلال. يأتي ذلك في ظل خطة ممنهجة شرسة يقودها الوزير بتسييل سموتريتش لضم الضفة وتوسيع الاستيطان، بينما تشن جماعات المستوطنين هجمات متكررة على ممتلكات الفلسطينيين من شمال الضفة إلى جنوبها.
كما تجاوزت “الإدارة المدنية الإسرائيلية”، التي أنشئت عام 1981 لإدارة الشؤون الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، صلاحيات السلطة الفلسطينية، حيث تدير الشؤون الفلسطينية بشكل مباشر دون الحاجة إلى وساطة السلطة، كما كان الوضع قبل إنشائها بموجب اتفاقيات أوسلو عام 1993. ويعتبر إعادة تفعيلها مؤشراً على إضعاف السلطة الفلسطينية وتهميشها، وفقاً لتقرير لموقع MEE البريطاني.
مخيم جنين.. رمز الصمود الذي أعجز “إسرائيل”
كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس في مخيم جنين
مخيم جنين، الذي يقع في قلب مدينة جنين شمال الضفة الغربية، يعتبر مركزاً للمقاومة منذ زمن بعيد، وهو رمز حي لتاريخ طويل من النضال ضد الاحتلال. تم تأسيس المخيم في عام 1953 لإيواء الفلسطينيين الذين شردتهم نكبة 1948، وسرعان ما أصبح قاعدة للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
تاريخياً، كانت منطقة جنين معقلاً لأول مقاومة فلسطينية منظمة ضد الحكم البريطاني، بقيادة عز الدين القسام، الذي وُلد في سوريا وقُتل في معركة عام 1935 في يعبد، التي تبعد 18 كيلومتراً غرب جنين. كما أن العديد من قادة الثورة الفلسطينية عام 1936 كانوا من جنين أو مقيمين فيها، مثل فرحان السعدي ويوسف أبو درة، مما أضفى رمزية إضافية على إنشاء مخيم للاجئين في هذه المنطقة ذات التراث السياسي.
تم إنشاء مخيم جنين للاجئين في الأصل عام 1953 لإيواء الفلسطينيين الذين هُجروا من حيفا ومنطقة الكرمل والقرى المجاورة، والذين تعرضوا للتطهير العرقي والنزوح القسري خلال نكبة 1948، حيث أجبر الاحتلال الإسرائيلي حوالي 750 ألف فلسطيني على مغادرة منازلهم لإفساح المجال أمام إقامة دولة إسرائيل.
مثل باقي المخيمات في الضفة الغربية، تم تأسيس المخيم على أراضٍ استأجرتها الأونروا من الحكومة الأردنية، وأصبح لاحقاً خاضعاً لسيطرة السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينيات.
في عام 1949، أصبحت مدينة جنين تحت حكم الإدارة الأردنية، ودخلت في اتحاد مع المملكة الأردنية الهاشمية. بحلول عام 1964، أصبحت مقراً للواء جنين التابع لمحافظة نابلس، وظلت تحت الحكم الأردني حتى احتلالها من قبل إسرائيل خلال حرب النكسة عام 1967.
استمر الوضع على هذا النحو حتى عام 1995، عندما خضعت مدينة جنين لإدارة السلطة الفلسطينية التي تأسست عام 1994 بموجب اتفاق غزة-أريحا. ومنذ ذلك الحين، أصبحت مدينة جنين مركزاً لمحافظة جنين، وأكبر مخيماتها هو مخيم جنين.
حالياً، يمتد المخيم على مساحة 420 ألف متر مربع في مدينة جنين، ويبلغ عدد سكانه حوالي 11680 شخصاً وفقاً لإحصاءات رسمية من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وبسبب قرب المخيم من القرى الأصلية لسكانه، لا يزال العديد منهم يحافظون على روابط وثيقة بأقاربهم داخل الخط الأخضر.
يعمل العديد من سكان المخيم في القطاع الزراعي في المناطق المحيطة بجنين. ورغم أن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” تقدم بعض الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والإغاثة، إلا أن المخيم يعاني من اكتظاظ المدارس ومعدلات بطالة مرتفعة ودمار كبير نتيجة الانتفاضة الثانية في عام 2002.
في أبريل 2002، خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، شهد مخيم جنين واحدة من أقسى المعارك بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي استمرت حوالي شهر. حينها، اجتاحت القوات الإسرائيلية المخيم بآلاف الجنود والدبابات والطائرات، في محاولة للقضاء على جذور المقاومة.
ورغم الدمار الواسع وسقوط الشهداء والجرحى، لم تتمكن “إسرائيل” من إنهاء روح المقاومة داخل المخيم، الذي أصبح رمزًا للصمود والتحدي. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف المخيم عن تقديم المقاتلين من مختلف الفصائل، مما جعله هدفًا دائمًا لاقتحامات الاحتلال الإسرائيلي.
كما شهدت مدينة ومخيم جنين هجمات مكثفة من قبل القوات الإسرائيلية منذ عام 2021 وحتى الآن، حيث أصبح هذا الموقع – بجانب مدينة غزة – رمزًا رئيسيًا للمقاومة الفلسطينية. ففي جنين وأماكن أخرى في شمال الضفة، يتزايد عدد الشباب الفلسطينيين الذين يحملون السلاح، باعتباره الوسيلة الوحيدة لمواجهة ضغط الاحتلال الإسرائيلي المستمر، وخيبة الأمل من تراجع فعالية السلطة الفلسطينية. ويضم مخيم جنين مقاتلين مسلحين من عدة فصائل، لذا يعتبره الإسرائيليون مركزًا لما يسمونه بـ”النشاط الإرهابي”، بينما يسميه الفلسطينيون بـ”عش الدبابير”، حتى أن الإعلام العبري أطلق هذا التوصيف عليه منذ عام 2002. ولذلك تسعى “إسرائيل” اليوم، بعدما عجزت عن مواجهة المخيم، إلى دفع السلطة الفلسطينية لإنجاز هذه المهمة، كما يشير الفلسطينيون.