في مثل هذه الأيام من كل عام، تعود الذاكرة إلى واحدة من المحطات المضيئة في تاريخ المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي ( ثورة ). في الرابع عشر والخامس عشر من غشت عام 1953، لم تكن مدينة مراكش تستعد لعيد الأضحى فقط، بل كانت على موعد مع حدث تاريخي سيُعرف لاحقاً باسم “انتفاضة المشور”. هذه الانتفاضة لم تكن مجرد رد فعل عفوي، بل كانت شرارة قوية أعلنت رفض المغاربة المطلق لقرار سلطات الحماية الفرنسية نفي بطل التحرير، المغفور له محمد الخامس، وعائلته.
سياق تاريخي: محاولات فرنسا لتقويض العرش العلوي
تصاعدت حدة التوتر بين سلطات الحماية الفرنسية والقصر الملكي منذ أواخر الأربعينيات، عندما أعلن السلطان محمد الخامس موقفه الواضح من المطالبة باستقلال المغرب في خطابه التاريخي بمدينة طنجة عام 1947. اعتبرت فرنسا هذا الموقف تهديداً مباشراً لمصالحها، وبدأت في التخطيط للانقلاب على السلطان الشرعي، مستغلة بعض “العملاء” من المغاربة، وعلى رأسهم التهامي الكلاوي باشا مراكش.
كانت خطة الفرنسيين تقضي بخلع السلطان ونفيه، وتنصيب سلطان جديد موالٍ لهم، وهو ما حدث بالفعل في 20 غشت 1953، عندما تم نفي الملك محمد الخامس وعائلته إلى مدغشقر. لكن قبل هذا التاريخ بخمسة أيام، انطلقت في مراكش شرارة الثورة التي لم تكن في الحسبان.
أحداث الانتفاضة: غضب شعبي عارم ورفض للتواطؤ
في 14 غشت 1953، استغل التهامي الكلاوي مناسبة عيد الأضحى لدعوة حشد من أتباعه إلى “القصر البهائي” بمراكش. كان الهدف من هذا التجمع هو إضفاء شرعية زائفة على قرار عزل السلطان الشرعي، وتمرير رسالة لسلطات الحماية بأن الشعب المغربي يوافق على هذا الإجراء.
لكن ما حدث كان عكس ما خطط له الكلاوي. فمع اقتراب الموكب من قصر الباشا، خرج الآلاف من المواطنين المراكشيين من كل حدب وصوب، رافعين شعارات الولاء للملك محمد الخامس. انطلقوا في مسيرة عفوية جابت شوارع المدينة العتيقة، مرددين شعارات تندد بـ “الخيانة” وتجدد البيعة للملك. تصدى المتظاهرون بقوة للعملاء وأتباع الكلاوي، واندلعت اشتباكات عنيفة في “ساحة المشور” التاريخية، مما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى.
النتائج والدلالات: من انتفاضة محلية إلى ثورة وطنية
على الرغم من القمع الوحشي الذي واجهته، أثبتت انتفاضة المشور أن قرار نفي الملك لم يكن مقبولاً شعبياً. كانت هذه الأحداث بمثابة إعلان واضح بأن الشعب المغربي لن يقبل بأي بديل عن ملكه الشرعي. شكلت هذه الانتفاضة نقطة تحول حاسمة في مسار المقاومة، حيث ألهبت حماسة المغاربة في جميع أنحاء البلاد، وأشعلت فتيل “ثورة الملك والشعب”.
لم يعد الأمر يقتصر على المقاومة السلمية، بل تحول إلى العمل المسلح المنظم الذي استهدف المصالح الفرنسية والمتعاونين معها. كانت انتفاضة مراكش رسالة قوية من الشعب المغربي، مفادها أن العرش العلوي ليس مجرد رمز للحكم، بل هو جزء لا يتجزأ من الهوية والوحدة الوطنية.
كانت هذه التضحيات الباسلة بمثابة اللبنة الأولى في طريق التحرير، والذي توّج بعودة الملك محمد الخامس من المنفى وإعلان استقلال المغرب عام 1956، لتظل انتفاضة المشور محفورة في ذاكرة الأمة كدليل على التلاحم الأبدي بين العرش والشعب.