تتناول الندوة الدولية التي انطلقت اليوم الأربعاء في الرباط موضوع “الترجمة في سياق الاستشراق: رؤية جديدة”، بمشاركة مجموعة من الخبراء من بلدان متعددة. تنظم هذه الندوة من قبل الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، وستمضي على مدى يومين في دراسة قضايا فكرية تتعلق بالترجمة كأداة مهمة قامت بدور أساسي في تعريف الغرب بالإنجازات الفكرية الشرقية في مجالات الأدب والفلسفة والعلوم.
تبحث الندوة أيضًا مواضيع الترجمة في الخطاب الاستشراقي بهدف تسليط الضوء على تفاعل الشرق والغرب، ليس فقط على مستوى الأفكار، بل أيضًا على مستوى العواطف والإدراك والتصورات الجمالية التي تشكل رؤية العالم. خلال الجلسة الافتتاحية، أكد عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، أن التفكير في الترجمة في إطار الاستشراق يجب أن يتجاوز مجرد النظر إلى الماضي لفحص الإنجازات، بل ينبغي أيضًا أن يؤدي إلى معالجة الحاضر واستشراف المستقبل.
أشار لحجمري إلى ضرورة تجاوز حدود الزمان والمكان، وطرح أسئلة جوهرية، مثل كيف يمكن أن تتحرر الترجمة من الأحكام المسبقة، وكيف نستطيع إعادة قراءة الاستشراق بعيدًا عن ثنائية الإدانة والتبرير. وأضاف بأن الترجمة ليست مجرد نقل للنصوص، بل هي فعل مركب تعكس فيه العوامل الثقافية والسياسية والفكرية.
لفت لحجمري إلى أن الترجمات في القرون الماضية كانت لها تأثيرات كبيرة في تشكيل صورة الفكر الإسلامي والأدب العربي داخل الوعي الغربي. ومع ذلك، يتطلب السياق المعاصر الذي يتميز بالتفاعل الثقافي والتداخل اللغوي إعادة التفكير في هذه العلاقات من منظور جديد.
وفي السياق ذاته، قال عبد الفتاح لحجمري، منسق الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة، إن أهمية هذا اللقاء تكمن في إعادة تقييم التصورات التي أحاطت بخطاب الاستشراق، خاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كما أشار إلى أن التغيرات الثقافية التي شهدها العالم منذ بداية الألفية الثالثة دفعت الباحثين والمفكرين إلى مراجعة طبيعة هذا الخطاب ووسائل عمله.
تضمنت الجلسة العلمية الأولى محور “الترجمة وصناعة المعرفة الاستشراقية”، حيث قدم أحمد شحلان، عضو أكاديمية المملكة، محاضرة بعنوان “الترجمة والمقاصد: ترجمة المِلل والنِّحل إلى اللغة الفرنسية، لماذا الشهرستاني وليس ابن حزم؟”، موضحًا أن الترجمة ترتبط بالسياقات التاريخية والسياسية، وليست مجرد وسيلة محايدة.
سلط شحلان الضوء على اختيار منظمة اليونسكو لكتاب “المِلل والنِّحل” للشهرستاني لترجمته إلى الفرنسية، مشيرًا إلى أن أسلوب الشهرستاني الذي يعتمد على العرض والتعريف دون تدخل نقدي أو انحياز، جعله الأنسب في سياق دعوة المنظمة للتسامح والتقارب الحضاري.
ناقش محمد حقي سوتشين، عضو هيئة التدريس بجامعة غازي في أنقرة، موضوع “دور الاستشراق في اكتشاف الذات لدى الشرق: الحالة التركية نموذجًا”، مبينًا أن الاستشراق ساهم في إعادة اكتشاف الشرق لذاته عبر التراث العربي الإسلامي. وأكد أن بعض المستشرقين قدموا نموذجًا للاستشراق النقدي الذي يسهم في بلورة الوعي الحضاري.
يتناول الباحثون في هذه الندوة الأسئلة المتعلقة بالترجمة في سياق الاستشراق، حيث تعتبر وسيلة للتواصل بين الثقافات، وتتجاوز دورها كوسيط لغوي لتصبح جزءًا من استراتيجية أكبر تفيد في فهم الشرق وإعادة تشكيل صورته في إطار معرفي محدد. تهدف هذه التظاهرة العلمية، بمشاركة خبراء من المغرب وإيطاليا وفرنسا وتركيا وألمانيا وبولندا والولايات المتحدة، إلى استقصاء أبعاد متنوعة عبر عدة محاور مثل “الترجمة وصناعة المعرفة الاستشراقية”، و”الأدب العربي بين الترجمة والتأويل”، و”نقد الخطاب الاستشراقي وتمثلاته”، و”الاستشراق الأوروبي بين التراث والفكر”.