أثارت عملية قتل موظفين في السفارة الإسرائيلية قرب المتحف اليهودي في واشنطن، التي وقعت يوم الأربعاء الماضي، ردود فعل واسعة في الأوساط الإسرائيلية وكذلك في الرأي العام الشعبي والنخبوي في الشارع العربي والإسلامي. حيث اعتبرت الحكومة الإسرائيلية الحادث بمثابة “عمل إرهابي مُعادي للسامية”. من جهة أخرى، رأت بعض الصحف الإسرائيلية أن هذا الحادث يُعد تكرارًا للفشل الأمني والاستخباراتي الإسرائيلي، في حين اتهمت المعارضة حكومة نتنياهو بإثارة مشاعر الكراهية ضد إسرائيل نتيجة لارتكابها “جرائم حرب في غزة”. وذكرت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية يوم الخميس أن مقتل موظفيْن في السفارة بسبب إطلاق نار يمثل الفشل الثاني لجهاز المخابرات الخارجية (الموساد) خلال العام، مما قد يدفع المؤسسة الأمنية لفتح تحقيق شامل في هذه الإخفاقات بعد الهجوم القاتل الذي وقع خلال فعالية حضرها ممثلون عن السفارة.
أشارت الصحيفة إلى وجود فشل أمني في إحباط الهجوم الذي وقع يوم الأربعاء بالتوقيت المحلي الأمريكي، حيث أسفر عن تورط ثلاث وكالات أمنية إسرائيلية: الموساد، قسم الأمن في الشاباك (جهاز الأمن العام)، وأمن وزارة الخارجية. وقد أوضح التحقيق أن المهاجم، الذي يُدعى إلياس رودريغيز ويعيش في شيكاغو بولاية إلينوي، لم يكن له أي سوابق إجرامية، وقام بقتل موظفين أثناء مغادرتهما المتحف قبل أن يدخل المبنى ويخدع حراس الأمن. وعندما وصلت الشرطة، أخرج سلاحه وسلم نفسه وهو يردد “الحرية لفلسطين”.
وأضافت الصحيفة أن وزارة الخارجية تمتلك السفارة في واشنطن والتي تؤمن من قبل الشاباك، بينما تقع مسؤولية الأمن خارج السفارة على عاتق وزارة الخارجية، مشيرة إلى أن كل من الشاباك ووزارة الخارجية تحتفظان بأكبر نظام أمني لهما خارج إسرائيل في العاصمة واشنطن.
وذكرت رئيسة شرطة واشنطن باميلا سميث في إحاطة إعلامية أن المشتبه به الذي أطلق النار هو “إلياس رودريغيز” (30 عاماً)، الذي هتف “فلسطين حرة حرة” أثناء توقيفه.
جاءت العملية في المتحف اليهودي في وقت يزداد فيه الغضب الدولي تجاه إسرائيل نتيجة استمرارها في ارتكاب جرائم الحرب ضد سكان قطاع غزة على مدار 19 شهرًا؛ حيث شهدت هذه الفترة تغييرات ملموسة في الرأي العام العالمي، بما في ذلك بين العديد من الأشخاص الذين كانوا يتقبلون الدعاية الإسرائيلية، تجاه الغضب المتزايد حيال المجازر المروعة التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في غزة، بالإضافة إلى سياسة التجويع التي حولت القطاع إلى كارثة إنسانية.
وحسبما ذكرت صحيفة معاريف، فإن هذا الحادث ليس الأول من نوعه؛ فقد سبق أن تعرض مئات المشجعين الإسرائيليين لاعتداءات من مناصرين للقضية الفلسطينية بعد مباراة لكرة القدم التي جمعت بين مكابي تل أبيب وأياكس أمستردام في إطار دوري أوروبا. آنذاك، اتُهم مشجعو مكابي تل أبيب من قبل أصوات يهودية، بما في ذلك آنا جوزيف، عضوة مجلس إدارة منظمة “إرف راف” المناهضة للصهيونية في هولندا، بتحمل مسؤولية أعمال الشغب والعنف.
تأتي هذه العملية في ظل صراع سياسي داخلي بين قادة الاحتلال، نتيجة لاستمرار حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، والتي أسفرت عن مقتل المئات من جنود الاحتلال، دون أن تحقق أيًا من الأهداف المعلنة. ومن جهة أخرى، تعاني إسرائيل من أزمة سياسية واقتصادية داخلية، حيث فقدت العديد من حلفائها الدوليين بسبب استمرار المجازر في غزة، مما جعل قادة الاحتلال مطلوبين للعدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية.
في الأيام الأخيرة، أثارت تصريحات زعيم “حزب الديمقراطيين” يائير غولان جدلاً واسعًا داخل كيان الاحتلال؛ حيث اتهم جنود الاحتلال بلعب دور في قتل الأطفال “كهواية” وارتكاب جرائم حرب ضد سكان غزة عبر القتل المباشر والحصار والتجويع. وقد نالت تصريحاته تأييد عدد من القادة الإسرائيليين، بما في ذلك رؤساء حكومات سابقين وكبار العسكريين، بينما اعتبرت الحكومة واليمين المتطرف موقف غولان “مُعاديًا لدولة إسرائيل”.
في خضم الأزمة السياسية التي أثارتها تصريحات يائير غولان، زعيم حزب الديمقراطيين، حول “هواية قتل الأطفال” في الدولة غير العاقلة، أضاف رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إيهود أولمرت، مزيدًا من التوتر بتصريحاته حول الجرائم القائمة وعمليات إرهاب بن غفير وسموتريتش. وقد استغل قادة اليمين حادثة قتل موظفي السفارة في واشنطن لاتهام غولان بأن دم القتيلين يتلطخ بيديه، ليقوم غولان بالدفاع عن نفسه ويدعو إلى أن دماءهم هي على أيدي وزراء ما أسماها “حكومة كهانا حي”، في إشارة إلى الحاخام العنصري مئير كهانا الذي أسس الرابطة اليهودية الفاشية.
وانضم إلى الجدل، بطريقة من التأييد أو التفاهم تجاه تصريحات غولان، إيهود باراك وموشي يعلون، اللذان كانا من أبرز المعارضين لنهج نتنياهو. وبعد أن شنت بعض شخصيات اليمين حملة دعائية على أولمرت بسبب تصريحاته الـ BBC، والتي قال فيها إن “إسرائيل تقترب من ارتكاب جرائم حرب في غزة”، عاد وأكد في مقابلة إذاعية أن هذه السياسة ستؤدي إلى كارثة في دولة إسرائيل.
هاجم أولمرت حكومة نتنياهو بشدة في صباح الخميس، حيث وصف بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بأنهما “إرهابيان”، محذرًا من أن إسرائيل تسير نحو الكارثة والعزلة الدولية. وقال في المقابلة: “ندعو إلى وضع حد لفوضى الحكومة وغطرسة الحكم.. نريد إنهاء هذه السياسة التي تتسبب بكارثة لدولة إسرائيل وستؤدي إلى عزلتها ونبذها من العالم بأسره، نظرًا للسياسة التي يقودها إرهابيان – بن غفير وسموتريتش”.
وفي حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، صرح أولمرت بأن هذه الحرب “بلا هدف.. بلا استراتيجية.. بلا فرصة للنجاح”. وأشار إلى أنه “لا توجد أهداف، وكل هذا ليس سوى خدعة، احتيال، غطرسة، تباهٍ، عديم الأساس”. وحذر من أن توسع القتال في قطاع غزة يشكل خطرًا حقيقيًا، موضحًا أن “الأحداث الحالية تقربنا جدًا من فقدان رهائننا، وتؤدي للأسف إلى مقتل جنودنا وتسبب عددًا هائلًا من القتلى والجرحى بين السكان الفلسطينيين غير المشاركين”.
أثارت تصريحات يائير غولان موجة من الغضب بين قادة حكومة اليمين المتطرف، حيث اتهموه بأنه أحد الأسباب وراء مقتل موظفي السفارة في واشنطن. وقال ثلاثة وزراء إن دماء موظفي السفارة تقع على عاتق غولان. بينما حمّل غولان الحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو مسؤولية الهجوم.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أكد أن هناك رابطًا مباشرًا بين الدعاية المعادية للسامية وبين حادث القتل، مشيرًا إلى أن ممثلي إسرائيل حول العالم هم “أهداف للإرهاب” ودعا القادة الدوليين لوقف التحريض ضد إسرائيل. في حين قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير إن “معادي السامية في العالم يستمدون قوتهم من سياسيين أشرار في إسرائيل”، في إشارة إلى غولان وموشيه يعالون.
وعبر وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهر عن صدمته إزاء الحادث، معتبرًا أن الهجوم نتج عن تشويه سمعة سياسيين دنيئين تم توجيه اتهامات الإبادة الجماعية وجرائم الحرب لهم. أما وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، فقد كان أكثر وضوحًا في تصريحاته، حيث قال إن “دم موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن على يد يائير غولان وأصدقائه”.
من جهته، رفض غولان هذه الاتهامات، محملاً نتنياهو مسؤولية الهجوم في واشنطن، مشيرًا إلى أن حكومته “تغذي معاداة السامية وكراهية إسرائيل، مما يشكل خطرًا يهدد كل يهودي في العالم”.
أثارت أحداث المتحف اليهودي العديد من التساؤلات حول تداعياتها في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فقد أعرب الدكتور عبد الله الشايجي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، عن اعتقاده بأن الهجوم ليس له علاقة بمعاداة السامية، بل هو نتاج طبيعي لاستمرار الحرب والتجويع الذي يتعرض له سكان غزة، بالإضافة إلى قتل الأطفال والنساء.
وأكد الشايجي -خلال مداخلة مع شبكة الجزيرة- أن تداعيات الحرب في غزة أصبحت قضية عالمية، في ظل جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل بشكل وحشي أمام الكاميرات. كما أشار إلى أن القمع الذي يتعرض له الطلاب في الولايات المتحدة ساهم في زيادة الكراهية تجاه إسرائيل، التي أصبحت مُدانة ومنبوذة، مؤكدًا أن المنفذ أراد إيصال رسالة مفادها “طفح الكيل”، وأخرى للداخل الإسرائيلي بأنهم “سيحملون ثمن الإصرار على الحرب”.
وفيما يتعلق بالتداعيات المستقبلية، توقع الشايجي أن تسعى إسرائيل لتغيير الرواية، متهمة الأوروبيين بالتحريض على قتل الإسرائيليين، وتقديم أنفسهم كضحايا لأنهم يهود. وخلص إلى أن رواية “المظلومية” التي قدمتها إسرائيل على مدى 77 عامًا قد انهارت، وأصبحت معروفة عالمياً كدولة ترتكب الإبادة الجماعية والمجازر.
بدوره، أشاد الكاتب والمحلل السياسي سعيد زياد بعملية مقتل الموظفين الإسرائيليين، معتبراً إياها موقفًا إنسانياً نصرة لسكان غزة، رغم عدم وجود صلة مباشرة بين المنفذ والشعب الفلسطيني. وانتقد زياد خذلان الموقف العربي للقضية، بالرغم من الروابط الثقافية والدينية بينهم. وأشار في منشور له على “فيسبوك” إلى أن إلياس رودريغز قد تحرك لنصرة فلسطين مستندًا إلى قيم الحرية والإنسانية، بينما تراجع الآخرون ممن يشاركونهم الروابط الدينية والثقافية.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، تُمارس إسرائيل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري في قطاع غزة، متجاهلة جميع النداءات الدولية والأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية لوقف هذه الانتهاكات. وقد تسببت هذه الإبادة، بدعم من الولايات المتحدة، في استشهاد وإصابة أكثر من 175 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين، مما أدى إلى وقوع مجاعة أودت بحياة العديد من الأشخاص، بما في ذلك أطفال. وفي 21 نونبر 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال لنتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة.