تعتبر مؤسسات المجتمع المدني في حياتنا المعاصرة قوة فعلية خدمية واقتراحية ، تسد من الفراغ في مجال التسيير والتدبير ما لا يمكن لوزارة ان تسده ولا سلطة من السلط .
فهي في عمقها من صميم العمل الحكومي الخدمي والذي من المفترض ان تقوم به الحكومة ذاتها ممثلة في اداراتها المباشرة لسد حاجيات الشعب الضرورية ، لكن التجارب السياسية عبر التاريخ أكدت ان وظيفة كهذه لا يمكن ان تضطلع بها الحكومة وحدها مباشرة فهي إدارة لها مهام متداخلة وان هذه الوظيفة هي من صميم وظيفة الشعب ذاته بتوصيف إداري وتنظيمي محدد بعيد عن مهام الحكومة وصلاحياتها. فمهمة الحكومة فيها : التشريع والتنسيق والمتابعة لا غير.
ذلك أن حاجة المجتمع الى مؤسسات المجتمع المدني الخدمية ، مرتبطة بكل بنيات المجتمع في كل ناحية ومترامية على مساحته في كل مكان وبيت وزقاق وشارع ومدينة وعمالة و إقليم، وهو ما يجعلها وظيفة شعب.. كل الشعب ..ولا يمكن تغطية تلك الحاجة من كل الوجوه إلا اذا انخرط الشعب كله والمجتمع فردا فردا في بنائها وتسييرها وخدمتها كل بما يستطيع ويقدر !!
وهذا ما لا يمكن للحكومة القيام به فالحكومة : (بأطرها الموظفين والمنتخبين) مجرد نخبة أقلية بجانب الجماهير !
لذلك تم تحديد مهامها في تأطير مؤسسات المجتمع المدني واحتوائها والتنسيق معها لتسهيل مهامها.
على ضوء ما تقرر أعلاه ، فالمؤسسات الخدمية سواء كانت جمعيات خيرية او مؤسسات فكرية او تربوية او ايا كانت خدماتها ، يجب أن تكون حاضرة حضورا كافيا في بنية المجتمع كجزء لا يمكن الاستغناء عنه في هيكله ونسيجه وجسده .
هذا الحضور له معايير محددة يستعان بها لمعرفة المؤسسات التي يحتاجها المجتمع من حيث تخصصها ودورها ومن حيث حجمها وقدرتها ومن حيث حاجتها الى ما يتطلبه نجاحها في العمل وتقديم الخدمات.
بلغة أخرى ، يقتضي الأمر ان تكون تغطية المؤسسات الخدمية للمجتمع كاملة شامل كتغطية ابراج الاتصالات بموجاتها لكامل المجتمع !
تصور معي حيا ليس فيه ابراج اتصالات ..ماذا سيحل به ؟ سيتفكك اتصاله ببعضه وينقطع اتصاله بالعالم .!! وربما حلت به كوارث (كالحريق مثلا ) كان ليتجاوزه باتصال هاتفي لإخبار رجال المطافي !
الأمر نفسه يحدث على مستوى مختلف حين يعدم حي من الأحياء فيه الف مشكل ومشكل اجتماعي مثلا ، وجود جمعية خيرية مثلا ! تضطلع بحل مشاكله وخدمته والقيام على خصاصته الاجتماعية !
اذا تصورت معي أن جمعيات مؤسسات المجتمع المدني تمثل أبراج اتصالات توصل الفقير بالغني ، والجاهل بالعالم ، والمريض بالطبيب ، والمحتاج الى الدواء بالصيدلاني، ومن يحتاج عملية جراحية بالمستشفى ، والمتخاصم مع زوجته بقاضي صلح ، والمديون الغارم باهل الزكاة ، والعاطل بصاحب العمل .. وهكذا كل ذي خصاصة بمن يكفله !! فستتصور أن الخصاص في الأبراج يعني مباشرة تراكم وتفاقم المشكلات الاجتماعية ، وهو ما لا قبل لحكومة بتجاوزه وحله مهما بلغت ميزانياتها وقوتها !!
والان .. اذا قمنا بمسح جغرافي ، يأخذ في الاعتبار تعداد السكان ، وقمنا بمسح لعدد الجمعيات الخيرية والتربوية ومؤسسات المجتمع المدني عموما !! فقل بالله عليك هل تجد من تناسب ! إن بين حاجة المجتمع وتلك المؤسسات بعد المشرقين ! مسافة شاسعة جدا بسببها ترى ما تراه من الهموم الاجتماعية الجاثمة على صدر الوطن بكل ثقلها !
نعم انت تتساءل عن دور الحكومة في إيجاد تلك الهموم !! والمصائب ايضا ، بل والكوارث كذلك ، وان الواجب ان تقوم الحكومة بدورها الواجب عليها دستوريا فيتلاشى تدريجيا الجزء الأكبر منها ! نعم هذا صحيح لا غبار عليه .. وهو واجب المؤسسات المنخرطة في الإصلاح السياسي هي المختصة بواجب التدافع والدفاع عن حقوق المواطن بالطرق الدستورية المقررة هيىات الرقابة ، المنتخبون ، الصحافة ، وغيرهم مسؤولون عن نقل الصورة ..وتذكير الحكومة والاحتجاج عليها وكل ما يلزم لتتحقق الخدمات المنوطة بها . لكننا لسنا هنا عن هذا نتحدث !
نحن هناك نتحدث عن حل المشكلات الاجتاعية في ظل وجود قصور من جهات عدة ..ننتظر حله ، نحن نتحدث عن جريح ملقى على الأرض ينزف وقد تأخر الإسعاف .. هل نسعفه وننقذه ام نتحسر بجانبه ونلطم على تأخر الإسعاف !!
هذه هي الصورة.
فإذا تقرر ذلك فنحن بحاجة الى استراتيجية مجتمعية بعيدة عن العبثية والفوضى والارتجال في الإصلاح ، ..نحن بحاجة إلى رجال لهم نظر ثاقب لصياغة مشروع مؤسسي اجتماعي يوضع له حجر الزاوية الأساس بشمولية تغطي المجتمع خطوة خطوة ، وتكامل يلبي حاجياته حاجة حاجة ، وخبرات تؤخذ من كل تجارب المجتمعات الغربية والشرقية المتطورة في هذا الاتجاه تمنع الفوضى والنهب والتسيب والتخبط ، ثم بتخطيط دقيق للحصول على الموارد وما يلزم لنجاح تلك المؤسسات.
فعمل كهذا يتكلم كسلطة رابعة بلغة يفهمها المجتمع ويعقلها ، ويذكرها ويحفظها، ويبقى أبد الدهر ممتنا لأهلها ، إنها سلطة تفعل ولا تتكلم ! ولغة السكوت أبلغ ! لا تضاهيها سلطة! وقوة ضاربة في الإقناع بحجة الفعل لا القول ، رافعة للقدر عند الله وعند المجتمع .. حاسمة في معركة التدافع والمعترك الفكري بل والسياسي أيضا.
===========
حقوق الطبع محفوظة لجريدة القرب 2024-2025 ©